عامر الدميني *
اكثر من 37 زيارة قام بها المبعوث الاممي السابق جمال بنعمر لليمن منذ تكليفه بتلك المهمة، إلتقى خلالها بجميع الشخصيات اليمنية، و واكب مسار الاحداث التي شهدتها البلاد خلال الخمس سنوات الماضية، وتنقل بين دول الإقليم، ومجلس الامن الدولي، وقبل ان تنتهي مهمته أقيل منها، دون رغبة منه في ذلك.
وارتبط اسمه بالثورة اليمنية التي اندلعت في فبراير 2011م ارتباطاً وثيقاً، رافق محطاتها ومنعطفاتها منذ وقت مبكر، وأصبح بعد ثلاث سنوات من عمله كمبعوث للامم المتحدة لليمن، يمثل واحدا من أهم الشخصيات التي اثرت في المشهد اليمني، ورسمت معالم صورته المستقبلية.
دخل بن عمر في صراع متأجج مع صالح وثعابينه المسمومة منذ اول لحظة، ومن خلال الرجوع الى زياراته لليمن طوال الثلاثة الاعوام الماضية، تتضح طبيعة المسؤولية التي اضطلع بها، وكيف تطورت من عام لآخر.
ففي العام 2011م تركزت مهمة بن عمر على تهيئة الاطراف للقبول بالمبادرة الخليجية والتوقيع عليها، وخاض في سبيل ذلك مشاورات طويلة لتقريب وجهات النظر، واجراء المقاربة بما يتسق وطبيعة المرحلة، حتى تم التوقيع عمليا على المبادرة في الثالث والعشرين من فبراير 2011م بالعاصمة السعودية الرياض، وكانت مهمته تلك دبلوماسية بإمتياز.
اما في العام 2012م فقد اختلف الامر كليا، حيث دخلت اليمن مرحلة جديدة بعد تشكيل حكومة الوفاق، وبالتالي فقد هيمنت قضايا كثيرة على جدول بن عمر، وكان لزاما عليه مواصلة مهمة ابتعاثه لضمان نجاح المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، خاصة التمهيد لاجراء الانتخابات الرئاسية التوافقية.
ولأن المسار الثوري في العام 2012م اختلف كليا عن العام الذي سبقه، فقد بدت مسؤولية بن عمر كبيرة، لكنها تحولت لتصبح مساندة لنظام هادي الذي اتخذ جملة قرارات في السلكين العسكري والمدني، وكان لها تأثير كبير على وضع عائلة صالح الوظيفي، وهو ما دفعها مؤخرا الى تنظيم حملات اعلامية ضده واتهامه بجر اليمن نحو الفوضى وتنفيذ مؤامرة دولية تستهدف امن البلاد ووحدته واستقراره.
وكان ابرز المهام التي تولاها خلال العام 2012م هي الحفاظ على المكاسب الحقيقية التي تحققت من المبادرة الخليجية، ومراقبة الاطراف التي تعرقل العملية السياسية، وبذل جهود اوسع للدفع بعملية الانتقال السلمي للسلطة نحو خطوات أكثر فاعلية، انطلاقا من الآلية التنفيذية للمبادرة نفسها، والتي حددت طبيعة مهام كل مرحلة، و لم تتوقف المباحثات عند الأطراف المعنية داخل اليمن، بل تعدت مباحثاته لتشمل قوى الحراك الجنوبي خارج البلاد، والمسؤولين الاممين في الادارة الامريكية، وغيرها من الحكومات المهتمة بالملف اليمني، ولذلك كانت مهمته في العام 2012م خليطا من الدبلوماسية والوسيط السياسي.
اما في العام 2013م فقد كان العام الأكثر خطورة، إذ ان مقياس نجاح المبادرة الخليجية ومدى تقبل مختلف الاطراف لها بفعل الجهود التي بذلت طوال العامين السابقين (2011-2012) من قبل بن عمر، كان مرهون بمدى نجاح مؤتمر الحوار الذي انطلقت فعالياته مطلع العام 2013م، فكان لزاما عليه بذل جهودا أكبر لانجاح مؤتمر الحوار الذي سبقته تعثرات وعراقيل كادت ان تجعل اقامته غير ممكنة.
ومع انطلاق اعمال المؤتمر الوطني للحوار جمعت مهمة بن عمر بين ثلاث صفات تلازمت مع بعض في وقت واحد، وهي الدبلوماسية كسفير أممي، والثانية وسيطاً سياسياً موفقاً بين مختلف الأطراف، والثالثة مستشاراً مرجعياً وصاحب مبادرات من خلال المقترحات التي تقدم بها في كثير من القضايا الشائكة والمثيرة للجدل داخل مؤتمر الحوار الوطني منذ الترتيبات الأولى وحتى لحظة انطلاقه.
تلك المحطات مثلت في البداية انجازات نجاح محسوبة لبنعمر، ونجح في ذلك فيما لم ينجح فيه نظرائه الأمميين المبتعثين في الدول التي تعيش اوضاعا مشابهه لليمن، وتمكن من سد منافذ العنف التي كانت على وشك الإنفجار، وأستطاع بتدرج متصل إنجاح المبادرة الخليجية بما احتوته من بنود ومراحل حتى نقطة النهاية.
لكن منذ مطلع العام 2014م بدأت مهمة بنعمر تنحرف عن مسارها، بالتزامن مع صعود جماعة الحوثي السريع نحو السلطة، وبدا بنعمر خلالها اقل حماساً تجاه الملفات التي استجدت في الساحة، ووجه له سياسيون وناشطون تهماً بالتواطئ مع جماعة الحوثي، في اسقاطها للمدن اولا، ثم شرعنة انقلابها على الحكم تالياً.
ومن الملاحظ هنا ان حملات الإنتقاد التي طالت بنعمر لم تكن قائمة طوال السنوات الثلاث الاولى، ما خلا بعض الانتقادات التي تعرض لها من حزب المؤتمر، لكنه لاحقاً بات محط إنتقاد الجميع بما فيهم قوى الثورة وناشطوها، و ابتداء ذلك مع مطلع العام الماضي، عندما تبين انحيازه للحوثيين.
و اصبحت الصورة اكثر وضوحاً بعد وصول الحوثيين للحكم، ففيما كان يدعو بنعمر في السابق الى تنفيذ المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وتطبيق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، بدا اكثر تساهلاً مع جماعة الحوثي، التي كانت تصعد ميدانياً، وتنسف جميع الاتفاقات السياسية التي اتفقت عليها قوى الداخل بإشراف بنعمر نفسه.
لم يحرك الرجل ساكناً تجاه سقوط صنعاء، ثم اقدم على صياغة اتفاق السلم والشراكة الذي اعقب السقوط، بآلية خدمت جماعة الحوثي، وسهلت لها مهمة التمدد وإلتهام بقية المدن اليمنية، وبدا عاجزا عن إتخاذ أي قرارات حاسمة، او إبلاغ مجلس الامن الدولي بما يدور فعلياً على ارض الواقع، بل إنه عمل على تضليل هيئة الأمم المتحدة بشأن الوضع في اليمن، عبر تستره الدائم على الإنتهاكات التي مارستها جماعة الحوثي، واصبح يمثل غطاء لجرائمها التي افشلت المبادرة الخليجية واعاقت تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، واكتفى بإحاطات عقيمة فيها الكثير من التدليس والضبابية مساعداً بذلك جماعة الحوثي المتمردة المدعومة من إيران من اجتياح محافظة عمران واجتياح العاصمة صنعاء بقوة السلاح، ومحاصرة الرئيس هادي بمنزله وكبار موظفي الدولة، والأنقلاب على شرعية الرئيس هادي، وقتل الجنود ونهب سلاح الجيش، وممارستها الجريمة المنظمة وقمعها الممنهج للحريات الصحافية والتظاهرات السلمية، واغتصاب مؤسسات الدولة، والتحكم بمصير الوظيفة العامة، وممارسة الاختطاف والتعذيب حتى الموت، و تعامل بعدها وكأنه يخضع لسياسة الامر الواقع امامه.
لذلك كله ولغيره من الاسباب بدا بنعمر غير صادقاً في مهمته، ولأول مرة وجهت احزاب سياسية اتهاماتها المباشرة له، بعد ان فقدت ثقتها به، خصوصا فيما يتعلق بالمكان الذي سينتقل إليه المتحاورون بعد الإعلان الدستوري لجماعة الحوثي، واتهمه الحزب الناصري بالسعي إلى إعطاء إعلان الحوثي الدستوري الشرعية، والتعامل مع نتائجه بصفة أحادية، اما حزب الإصلاح فقد وجه له رسالة خطية اعترض فيها على مناقشة موضوع الرئاسة، في المناقشات التي جرت بهذا الشأن، و رد بنعمر على موقف الحزبين في بلاغات مستقلة.
والامر ذاته كان محل اعتراض من قبل الرئاسة اليمنية، التي طالبت بنعمر، بالالتزام بقرار مجلس الأمن الدولي بشأن نقل جلسات الحوار بين الأطراف السياسية إلى خارج العاصمة صنعاء، بعد سيطرة جماعة الحوثي عليها.
ومع انطلاق عمليات #عاصفة_الحزم في السادس والعشرين من مارس/اذار الماضي، توارى بنعمر عن الأنظار، وبات واضحا انه لم يعد طرفاً مؤثرا بالملف اليمني، وتداولت وسائل الإعلام المحلية والدولية اخبارا تفيد اعتزام الامين العام للامم المتحدة تعيين الموريتاني اسماعيل ولد شيخ أحمد كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤن اليمن، وكان المبرر الواضح حينها ان الامم المتحدة وصلت الى قناعة أن المرحلة الجديدة تحتاج الى وجوه وشخصيات جديده.
وبعد عشرون يوما من تلك الانباء قطع جمال بنعمر الشكوك في مسالة إقالته من مهمته في اليمن، وكتب على صفحته في الفيسبوك انه يرغب في الانتقال إلى مهمة جديدة وسيتم تعيين خلف له في وقت قريب.
ما بدا واضحا عقب الاعلان الرسمي لبنعمر في التنحي هو تعليق ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي عقب تنحي بنعمر الذي اعرب فيه عن أسفه لاستقالة جمال بنعمر من منصب المبعوث الأممي إلى اليمن، معتبرا أنه من الصعب إيجاد خلف مناسب له، مضيفا في تصريحه لوكالة انترفاكس بأن بنعمر شخص مؤهل، وذو فهم عميق للوضع في اليمن، ولذلك لن تكون مهمة إيجاد خلف مناسب له سهلة، علما بأن هذا الخلف يجب أن يكون نشطا وخبيرا، لكي يساعد الأطراف اليمنية في التوصل إلى اتفاق بشأن وقف إطلاق النار واستئناف العملية السياسية حسب تعبيره، وربما يلقي ذلك التصريح ظلال الشك على علاقة بنعمر مع الحوثيين ومن خلفهم روسيا وإيران.
ربما لم يكن واردا في خلد بنعمر ان مهمته في اليمن ستنتهي على هذا النحو، بعد ان كان يرى انها تمثل له الفرصة الاعظم لتحقيق مكاسب شخصية وتمكنه من الترقي داخل منظمة الامم المتحدة.
لكن الاحداث الجديدة عكست أن استبداله جاء بعد ان اصبح سبباً رئيسيا ضمن اسباب عديدة قادت اليمن الى حالته الراهنة، و أن تغييره يسدل الستار على المرحلة الماضية، وينذر ببدء بمرحلة جديدة في اليمن.
ويعني استبداله ايضا انه فشل في اداء مهمته كمبعوث اممي في اليمن، وان النجاح الذي كان يسوقه لنفسه من خلال مهمته في اليمن داخل الامم المتحدة وامام المجتمع الدولي قد فشل ايضا كتجربة شخصية للرحل.
* صحفي يمني - صنعاء